الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)} القصص في هذه السورة هو قوامها؛ ولكنه لم يجئ فيها مستقلاً، إنما جاء مصداقاً للحقائق الكبرى التي جاءت السورة لتقريرها. والتي أجملها السياق في مطلع السورة: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير، ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير، وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير، إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير} وقد تضمن مطلع السورة جولات متعددة حول هذه الحقائق. جولات في ملكوت السماوات والأرض، وفي جنبات النفس، وفي ساحة الحشر.. ثم أخذ في هذه الجولة الجديدة في جنبات الأرض وأطواء التاريخ مع قصص الماضين.. يستعرض حركة العقيدة الإسلامية في مواجهة الجاهلية على مدار القرون. والقصص هنا مفصل بعض الشيء وبخاصة قصة نوح والطوفان وهو يتضمن الجدل حول حقائق العقيدة التي وردت فى مطلع السورة، والتي يجيء كل رسول لتقريرها، وكأنما المكذبون هم المكذبون، وكأنما طبيعتهم واحدة، وعقليتهم واحدة على مدار التاريخ. ويتبع القصص في هذه السورة خط سير التاريخ، فيبدأ بنوح، ثم هود، ثم صالح، ويلم بإبراهيم في الطريق إلى لوط، ثم شعيب، ثم إشارة إلى موسى.. ويشير إلى الخط التاريخي، لأنه يذكر التالين بمصير السالفين على التوالي بهذا الترتيب: ونبدأ بقصة نوح مع قومه. أول هذا القصص في السياق. وأوله في التاريخ: {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه. إني لكم نذير مبين. ألا تعبدوا إلا الله، إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم}.. إنها تكاد تكون الألفاظ ذاتها التي أرسل بها محمد صلى الله عليه وسلم والتي تضمنها الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. وهذه المقاربة في ألفاظ التعبير عن المعنى الرئيسي الواحد مقصودة في السياق لتقرير وحدة الرسالة ووحدة العقيدة، حتى لتتوحد ألفاظ التعبير عن معانيها. وذلك مع تقدير أن المحكي هنا هو معنى ما قاله نوح عليه السلام لا ألفاظه. وهو الأرجح. فنحن لا ندري بأية لغة كان نوح يعبر. {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه: إني لكم نذير مبين}.. ولم يقل قال: إني... لأن التعبير القرآني يحيي المشهد فكأنما هو واقعة حاضرة لا حكاية ماضية. وكأنما هو يقول لهم الآن ونحن نشهد ونسمع. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه يلخص وظيفة الرسالة كلها ويترجمها إلى حقيقة واحدة: {إني لكم نذير مبين}.. وهو أقوى في تحديد هدف الرسالة وإبرازه في وجدان السامعين. ومرة أخرى يبلور مضمون الرسالة في حقيقة جديدة: {ألا تعبدوا إلا الله}.. فهذا هو قوام الرسالة، وقوام الإنذار. ولماذا؟ {إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم}.. فيتم الإبلاغ ويتم الإنذار، في هذه الكلمات القصار.. واليوم ليس أليماً. إنما هو مؤلم. والأليم إسم مفعول أصله: مألوم! إنما هم المألومون في ذلك اليوم. ولكن التعبير يختار هذه الصيغة هنا، لتصوير اليوم ذاته بأنه محمل بالألم، شاعر به، فما بال من فيه؟ {فقال الملأ الذين كفروا من قومه: ما نراك إلا بشراً مثلنا، وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي، وما نرى لكم علينا من فضل، بل نظنكم كاذبين}.. ذلك رد العلية المتكبرين.. الملأ.. كبار القوم المتصدرين.. وهو يكاد يكون رد الملأ من قريش: ما نراك إلا بشراً مثلنا، وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل، بل نظنكم كاذبين. الشبهات ذاتها، والاتهامات ذاتها، والكبرياء ذاتها، والاستقبال الغبي الجاهل المتعافي! إنها الشبهة التي وقرت في نفوس جهال البشر: أن الجنس البشري أصغر من حمل رسالة الله؛ فإن تكن رسالة فليحملها ملك أو مخلوق آخر. وهي شبهة جاهلة، مصدرها عدم الثقة بهذا المخلوق الذي استخلفه الله في أرضه، وهي وظيفة خطيرة ضخمة، لا بد أن يكون الخالق قد أودع في هذا الإنسان ما يكافئها من الإستعداد والطاقة، وأودع في جنسه القدرة على أن يكون من بينه أفراد مهيأون لحمل الرسالة، باختيار الله لهم، وهو أعلم بما أودع في كيانهم الخاص من خصائص هذا الجنس في عمومه. وشبهة أخرى جاهلة كذلك. هي أنه إذا كان الله يختار رسولاً، فلم لا يكون من بين هؤلاء الملأ الكبراء في قومهم، المتسلطين العالين؟ وهو جهل بالقيم الحقيقية لهذا المخلوق الإنساني، والتي من أجلها استحق الخلافة في الأرض بعمومه، واستحق حمل رسالة الله بخصوصيته في المختارين من صفوفه. وهذه القيم لا علاقة لها بمال أو جاه أو استطالة في الأرض، إنما هي في صميم النفس، واستعدادها للاتصال بالملأ الأعلى، بما فيها من صفاء وتفتح وقدرة على التلقي، واحتمال للأمانة وصبر على أدائها ومقدرة على إبلاغها.. إلى آخر صفات النبوة الكريمة.. وهي صفات لا علاقة لها بمال أو جاه أو استعلاء! ولكن الملأ من قوم نوح، كالملأ من قوم كل نبي تعميهم مكانتهم الدنيوية عن رؤية هذه الخصائص العلوية، فلا يدركون مبرراً لاختصاص الرسل بالرسالة. وهي في زعمهم لا تكون لبشر. فإن كانت فهي لأمثالهم من الوجهاء العالين في الأرض! {وما نراك إلا بشراً مثلنا}.. هذه واحدة.. أما الأخرى فأدهى: {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا، بادي الرأي} !! وهم يسمون الفقراء من الناس «أراذل».. كما ينظر الكبراء دائماً إلى الآخرين الذين لم يؤتوا المال والسلطان! وأولئك هم أتباع الرسل السابقون غالباً؛ لأنهم بفطرتهم أقرب إلىلإستجابة للدعوة التي تحرر الناس من العبودية للكبراء، وتصل القلوب بإله واحد قاهر عال على الأعلياء. ولأن فطرتهم لم يفسدها البطر والترف. ولم تعوقها المصالح عن الإستجابة؛ ولأنهم لا يخافون من العقيدة في الله أن تضيع عليهم مكانة مسروقة لغفلة الجماهير واستعبادها للخرافات الوثنية في شتى صورها. وأول صور الوثنية الدينونة والعبودية والطاعة والاتباع للأشخاص الزائلة بدلاً من الإتجاه بهذا كله لله وحده دون شريك. فرسالات التوحيد هي حركات التحرير الحقيقية للبشر في كل طور وفي كل أرض. ومن ثم كان يقاومها الطغاة دائماً، ويصدون عنها الجماهير؛ ويحاولون تشويهها واتهام الدعاة إليها بشر التهم للتشويش والتنفير. {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي}.. أي دون ترو ولا تفكير.. وهذه تهمة كذلك توجه دائماً من الملأ العالين لجموع المؤمنين.. أنها لا تتروى ولا تفكر في اتباع الدعوات. ومن ثم فهي متهمة في اتباعها واندفاعها، ولا يليق بالكبراء أن ينهجوا نهجها، ولا أن يسلكوا طريقها. فإذا كان الأراذل يؤمنون، فما يليق إذن بالكبراء أن يؤمنوا إيمان الأراذل؛ ولا أن يدعوا الأراذل يؤمنون! {وما نرى لكم علينا من فضل}.. يدمجون الداعي بمن تبعوه من الأراذل! ما نرى لكم علينا من فضل يجعلكم أقرب إلى الهدى، أو أعرف بالصواب. فلو كان ما معكم خيراً وصواباً لاهتدينا إليه، ولم تسبقونا أنتم إليه! وهم يقيسون الأمور ذلك القياس الخاطئ الذي تحدثنا عنه. قياس الفضل بالمال، والفهم بالجاه، والمعرفة بالسلطان.. فذو المال أفضل. وذو الجاه أفهم. وذو السلطان أعرف!!! هذه المفاهيم وتلك القيم التي تسود دائماً حين تغيب عقيدة التوحيد عن المجتمع، أو تضعف آثارها، فترتد البشرية إلى عهود الجاهلية، وإلى تقاليد الوثنية في صورة من صورها الكثيرة وإن بدت في ثوب من الحضارة المادية قشيب. وهي انتكاسة للبشرية من غير شك، لأنها تصغر من القيم التي بها صار الإنسان إنساناً، واستحق الخلافة في الأرض، وتلقى الرسالة من السماء؛ وترجع به إلى قيم أقرب إلى الحيوانية العضلية الفيزيقية! {بل نظنكم كاذبين}... وهي التهمة الأخيرة يقذفون بها في وجه الرسول وأتباعه. ولكنهم على طريقة طبقتهم.. «الأرستقراطية».. يلقونها في أسلوب التحفظ اللائق «بالأرستقراط!» {بل نظنكم!} لأن اليقين الجازم في القول والإتجاه من طبيعة الجماهير المندفعة بادي الرأي التي يترفع عنها السادة المفكرون المتحفظون! إنه النموذج المتكرر من عهد نوح، لهذه الطبقة المليئة الجيوب الفارغة القلوب، المتعاظمة المدعية المنتفخة الأوداج والأمخاخ!! ويتلقى نوح عليه السلام الإتهام والإعراض والاستكبار، في سماحة النبي وفي استعلائه وفي ثقته بالحق الذي جاء به، واطمئنانه إلى ربه الذي أرسله؛ وفي وضوح طريقه أمامه واستقامة منهجه في شعوره. فلا يشتم كما شتموا، ولا يتهم كما اتهموا، ولا يدعي كما ادعوا، ولا يحاول أن يخلع على نفسه مظهراً غير حقيقته ولا على رسالته شيئاً غير طبيعتها.. {قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي، وآتاني رحمة من عنده فعميّت عليكم. أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟ ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله، وما أن بطارد الذين آمنوا، إنهم ملاقو ربهم، ولكني أراكم قوماً تجهلون. ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون؟ ولا أقول لكم: عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول: إني ملك، ولا أقول للذين تزدري أعينكم: لن يؤتيهم الله خيراً. الله أعلم بما في أنفسهم، إني إذن لمن الظالمين}.. {يا قوم}.. في سماحة ومودة بندائهم ونسبتهم إليه، ونسبة نفسه إليهم. إنكم تعترضون فتقولون: {ما نراك إلا بشراً مثلنا}.. فما يكون رأيكم إن كنت على اتصال بربي، بيِّن في نفسي مستيقن في شعوري. وهي خاصية لم توهبوها. وإن كان الله آتاني رحمة من عنده باختياري للرسالة، أو آتاني من الخصائص ما أستحق به حمل الرسالة وهذه رحمة ولا شك عظيمة ما رأيكم إن كانت هذه وتلك فخفيت عليكم خفاء عماية، لأنكم غير متهيئين لإدراكها، وغير مفتوحي البصائر لرؤيتها. {أنلزمكموها؟} إنه ما كان لي وما أنا بمستطيع أن ألزمكم الإذعان لها والإيمان بها {وأنتم لها كارهون} ! وهكذا يتلطف نوح في توجيه أنظارهم ولمس وجدانهم وإثارة حساسيتهم لإدراك القيم الخفية عليهم، والخصائص التي يغفلون عنها في أمر الرسالة والإختيار لها: ويبصرهم بأن الأمر ليس موكولاً إلى الظواهر السطحية التي يقيسون بها. وفي الوقت ذاته يقرر لهم المبدأ العظيم القويم. مبدأ الإختيار في العقيدة، والإقتناع بالنظر والتدبر، لا بالقهر والسلطان والإستعلاء! {ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً، إن أجري إلا على الله، وما أنا بطارد الذين آمنوا، إنهم ملاقو ربهم، ولكني أراكم قوماً تجهلون}. يا قوم إن الذين تدعونهم أراذل قد دعوتهم فآمنوا، وليس لي عند الناس إلا أن يؤمنوا. إنني لا أطلب مالاً على الدعوة، حتى أكون حفياً بالأثرياء غير حفي بالفقراء؛ فالناس كلهم عندي سواء.. ومن يستغن عن مال الناس يتساو عنده الفقراء والأغنياء.. {إن أجري إلا على الله}.. عليه وحده دون سواه. {وما أنا بطارد الذين آمنوا}.. ونفهم من هذا الرد أنهم طلبوا أو لوحوا له بطردهم من حوله، حتى يفكروا هم في الإيمان به، لأنهم يستنكفون أن يلتقوا عنده بالأراذل، أو أن يكونوا وإياهم على طريق واحد! لست بطاردهم، فهذا لا يكون مني. لقد آمنوا وأمرهم بعد ذلك إلى الله لا لي: {إنهم ملاقو ربهم}.. {ولكني أراكم قوماً تجهلون}.. تجهلون القيم الحقيقية التي يقدر بها الناس في ميزان الله. وتجهلون أن مرد الناس كلهم إلى الله. {ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم. أفلا تذكرون؟}.. فهناك الله. رب الفقراء والأغنياء. ورب الضعفاء والأقوياء. هناك الله يقوِّم الناس بقيم أخرى. ويزنهم بميزان واحد. هو الإيمان. فهؤلاء المؤمنون في حماية الله ورعايته. {ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم؟}.. من يعصمني من الله إن أنا أخللت بموازينه، وبغيت على المؤمنين من عباده وهم أكرم عليه وأقررت القيم الأرضية الزائفة التي أرسلني الله لأعدِّلها لا لأتبعها؟ {أفلا تذكّرون؟}.. وقد أنساكم ما أنتم فيه ميزان الفطرة السليمة القويمة؟ ثم يقدم لهم شخصه ورسالته مجردين عن كل زخرف وكل طلاء وكل قيمة من تلك القيم العرضية الزائفة. يقدمها لهم في معرض التذكير، ليقرر لهم القيم الحقيقية، ويزدري أمامهم القيم الظاهرية، بتخليه عنها، وتجرده منها. فمن شاء الرسالة كما هي، بقيمها، بدون زخرف، بدون ادعاء، فليتقدم إليها مجردة خالصة لله: {ولا أقول لكم عندي خزائن الله..} فأدعي الثراء أو القدرة على الإثراء... {ولا أعلم الغيب}.. فأدعي قدرة ليست للبشر أو صلة بالله غير صلة الرسالة.. {ولا أقول: إني ملك}.. فأدعي صفة أعلى من صفة الإنسانية في ظنكم لأرتفع في أعينكم، وأفضل نفسي بذاتي عليكم. {ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيراً}.. إرضاء لكبريائكم، أو مسايرة لتقديركم الأرضي وقيمكم العرضية. {الله أعلم بما في أنفسهم}.. فليس لي إلا ظاهرهم، وظاهرهم يدعو إلى التكريم، وإلى الرجاء في أن يؤتيهم الله خيراً.. {إني إذن لمن الظالمين}.. إن إدعيت أية دعوى من هذه الدعاوي. الظالمين للحق وقد جئت أبلغه؛ والظالمين لنفسي فأعرضها لغضب الله؛ والظالمين للناس فأنزلهم غير ما أنزلهم الله. وهكذا ينفي نوح عليه السلام عن نفسه وعن رسالته كل قيمة زائفة وكل هالة مصطنعة يتطلبها الملأ من قومه في الرسول والرسالة. ويتقدم إليهم بها مجردة إلا من حقيقتها العظيمة التي لا تحتاج إلى مزيد من تلك الأعراض السطحية. ويردهم في نصاعة الحق وقوته، مع سماحة القول ووده إلى الحقيقة المجردة ليواجهوها، ويتخذوا لأنفسهم خطة على هداها. بلا ملق ولا زيف ولا محاولة استرضاء على حساب الرسالة وحقيقتها البسيطة. فيعطي أصحاب الدعوة في أجيالها جميعاً نموذجاً للداعية ودرساً في مواجهة أصحاب السلطان بالحق المجرد، دون استرضاء لتصوراتهم، ودون ممالأة لهم، مع المودة التي لا تنحني معها الرؤوس! وعند هذا الحد كان الملأ من قوم نوح قد يئسوا من مناهضة الحجة بالحجة؛ فإذا هم على عادة طبقتهم قد أخذتهم العزة بالإثم، واستكبروا أن تغلبهم الحجة، وأن يذعنوا للبرهان العقلي والفطري. وإذا هم يتركون الجدل إلى التحدي: {قالوا: يا نوح قد جادلتنا، فأكثرت جدالنا، فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين}. إنه العجز يلبس ثوب القدرة، والضعف يرتدي رداء القوة؛ والخوف من غلبة الحق يأخذ شكل الإستهانة والتحدي: {فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين}.. وأنزل بنا العذاب الأليم الذي أنذرتنا به فلسنا نصدقك، ولسنا نبالي وعيدك. أما نوح فلا يخرجه هذا التكذيب والتحدي عن سمت النبي الكريم، ولا يقعده عن بيان الحق لهم، وإرشادهم إلى الحقيقة التي غفلوا عنها وجهلوها في طلبهم منه أن يأتيهم بما أوعدهم، وردهم إلى هذه الحقيقة وهي أنه ليس سوى رسول، وليس عليه إلا البلاغ، أما العذاب فمن أمر الله، وهو الذي يدبر الأمر كله، ويقدر المصلحة في تعجيل العذاب أو تأجيله، وسنته هي التي تنفذ.. وما يملك هو أن يردها أو يحولها.. إنه رسول. وعليه أن يكشف عن الحق حتى اللحظة الأخيرة، فلا يقعده عن إبلاغه وبيانه أن القوم يكذبونه ويتحدونه: {قال: إنما يأتيكم به الله إن شاء، وما أنتم بمعجزين. ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم، هو ربكم وإليه ترجعون}.. فإذا كانت سنة الله تقتضي أن تهلكوا بغوايتكم، فإن هذه السنة ستمضي فيكم، مهما بذلت لكم من النصح. لا لأن الله سيصدكم عن الانتفاع بهذا النصح، ولكن لأن تصرفكم بأنفسكم يجعل سنة الله تقتضي أن تضلوا، وما أنتم بمعجزين لله عن أن ينالكم ما يقدر لكم، فأنتم دائماً في قبضته، وهو المدبر والمقدر لأمركم كله؛ ولا مفر لكم من لقائه وحسابه وجزائه: {هو ربكم وإليه ترجعون}.. وعند هذا المقطع من قصة نوح، يلتفت السياق لفتة عجيبة، إلى استقبال مشركي قريش لمثل هذه القصة، التي تشبه أن تكون قصتهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم ودعواهم أن محمداً يفتري هذا القصص. فيرد هذا القول قبل أن يمضي في استكمال قصة نوح: {أم يقولون افتراه؟ قل: إن افتريته فعليّ إجرامي، وأنا بريء مما تجرمون}.. فالافتراء إجرام، قل لهم: إن كنت فعلته فعليَّ تبعته. وأنا أعرف أنه إجرام فمستبعد أن أرتكبه، وأنا بريء مما تجرمون من تهمة الافتراء إلى جوار غيرها من الشرك والتكذيب. وهذا الاعتراض لا يخالف سياق القصة في القرآن، لأنها إنما جاءت لتأدية غرض من هذا في السياق. ثم يمضي السياق في قصة نوح؛ يعرض مشهداً ثانياً. مشهد نوح يتلقى وحي ربه وأمره: {وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن. فلا تبتئس بما كانوا يفعلون، واصنع الفلك بأعيننا ووحينا، ولا تخاطبني في الذين ظلموا، إنهم مغرقون}.. فقد انتهى الإنذار، وانتهت الدعوة، وانتهى الجدل! {وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن}. فالقلوب المستعدة للإيمان قد آمنت، أما البقية فليس فيها استعداد ولا اتجاه. هكذا أوحى الله إلى نوح، وهو أعلم بعباده، وأعلم بالممكن والممتنع، فلم يبق مجال للمضي في دعوة لا تفيد. ولا عليك مما كانوا يفعلونه من كفر وتكذيب وتحد واستهزاء: {فلا تبتئس بما كانوا يفعلون}.. أي لا تحس بالبؤس والقلق، ولا تحفل ولا تهتم بهذا الذي كان منهم، لا على نفسك فما هم بضاريك بشيء، ولا عليهم فإنهم لا خير فيهم. دع أمرهم فقد انتهى.. {واصنع الفلك بأعيننا ووحينا}. برعايتنا وتعليمنا. {ولا تخاطبني في الذين ظلموا، إنهم مغرقون}.. فقد تقرر مصيرهم وانتهى الأمر فيهم. فلا تخاطبني فيهم.. لا دعاء بهدايتهم، ولا دعاء عليهم وقد ورد في موضع آخر أنه حين يئس منهم دعا عليهم، والمفهوم أن اليأس كان بعد هذا الوحي فمتى انتهى القضاء امتنع الدعاء.. والمشهد الثالث من مشاهد القصة: مشهد نوح يصنع الفلك، وقد اعتزل القوم وترك دعوتهم وجدالهم: {ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه: قال: إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون. فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم}.. والتعبير بالمضارع. فعل الحاضر.. هو الذي يعطي المشهد حيويته وجدته. فنحن نراه ماثلاً لخيالنا من وراء هذا التعبير. يصنع الفلك. ونرى الجماعات من قومه المتكبرين يمرون به فيسخرون. يسخرون من الرجل الذي كان يقول لهم: إنه رسول ويدعوهم، ويجادلهم فيطيل جدالهم؛ ثم إذا هو ينقلب نجاراً يصنع مركباً.. إنهم يسخرون لأنهم لا يرون إلا ظاهر الامر، ولا يعلمون ما وراءه من وحي وأمر. شأنهم دائماً في إدراك الظواهر والعجز عن إدراك ما وراءها من حكمة وتقدير. فأما نوح فهو واثق عارف وهو يخبرهم في اعتزاز وثقة وطمأنينة واستعلاء أنه يبادلهم سخرية بسخرية: {قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون}.. نسخر منكم لأنكم لا تدركون ما وراء هذا العمل من تدبير الله وما ينتظركم من مصير: {فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يوم مقيم}.. أنحن أم أنتم: يوم ينكشف المستور، عن المحذور! ثم مشهد التعبئة عندما حلت اللحظة المرتقبة: {حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور، قلنا: احمل فيها من كل زوجين اثنين، وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن، وما آمن معه إلا قليل. وقال: اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها، إن ربي لغفور رحيم}. وتتفرق الأقوال حول فوران التنور، ويذهب الخيال ببعضها بعيداً، وتبدو رائحة الإسرائيليات فيها وفي قصة الطوفان كلها واضحة. أما نحن فلا نضرب في متاهة بغير دليل، في هذا الغيب الذي لا نعلم منه إلا ما يقدمه لنا النص، وفي حدود مدلوله بلا زيادة. وأقصى ما نملك أن نقوله: إن فوران التنور والتنور الموقد قد يكون بعين فارت فيه، أو بفوارة بركانية. وأن هذا الفوران ربما كان علامة من الله لنوح، أو كان مصاحباً مجرد مصاحبة لمجيء الأمر، وبدءاً لنفاذ هذا الأمر بفوران الأرض بالماء. وسح الوابل من السماء. لما حدث هذا {قلنا: احمل فيها من كل زوجين اثنين...} كأن نظام العملية كان يقتضي أن يؤمر نوح بمراحلها واحدة واحدة في حينها. فقد أمر أولاً بصنع الفلك فصنعه، ولم يذكر لنا السياق الغرض من صنعه، ولم يذكر أنه أطلع نوحاً على هذا الغرض كذلك. {حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور}.. أمر بالمرحلة التالية.. {قلنا: احمل فيها من كل زوجين اثنين، وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن}.. ومرة أخرى تتفرق الأقوال حول {من كل زوجين اثنين} وتشيع في الجو رائحة الإسرائيليات قوية. أما نحن فلا ندع الخيال يلعب بنا ويشتط حول النص: {احمل فيها من كل زوجين اثنين}.. مما يملك نوح أن يمسك وأن يستصحب من الأحياء. وما وراء ذلك خبط عشواء.. {وأهلك إلا من سبق عليه القول}.. أي من استحق عذاب الله حسب سنته. {ومن آمن}.. من غير أهلك. {وما آمن معه إلا قليل}.. {وقال: اركبوا فيها باسم الله مجريها ومرساها}.. فنفذ الأمر وحشر من حشر وما حشر. {وقال: اركبوا فيها باسم الله مجريها ومرساها}.. وهذا تعبير عن تسليمها للمشيئة في جريانها ورسوها، فهي في رعاية الله وحماه.. وماذا يملك البشر من أمر الفلك في اللجة الطاغية بله الطوفان؟! ثم يأتي المشهد الهائل المرهوب: مشهد الطوفان: {وهي تجري بهم في موج كالجبال، ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين، قال. سآوي إلى جبل يعصمني من الماء. قال: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم. وحال بينهما الموج فكان من المغرقين}.. إن الهول هنا هولان. هول في الطبيعة الصامته، وهول في النفس البشرية يلتقيان: {وهي تجري بهم في موج كالجبال}.. وفي هذه اللحظة الرهيبة الحاسمة يبصر نوح، فإذا أحد أبنائه في معزل عنهم وليس معهم، وتستيقظ في كيانه الأبوة الملهوفة، ويروح يهتف بالولد الشارد: {يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين}.. ولكن البنوة العاقة لا تحفل بالأبوة الملهوفة، والفتوة المغرورة لا تقدر مدى الهول الشامل: {قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء}.. ثم ها هي ذي الأبوة المدركة لحقيقة الهول وحقيقة الأمر ترسل النداء الأخير: {قال: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم}. لا جبال ولا مخابئ ولا حامٍ ولا واقٍ. إلا من رحم الله. وفي لحظة تتغير صفحة المشهد. فها هو ذا الموج الغامر يبتلع كل شيء: {وحال بينهما الموج فكان من المغرقين}. وإننا بعد آلاف السنين، لنمسك أنفاسنا ونحن نتابع السياق والهول يأخذنا كأننا نشهد المشهد. وهي تجري بهم في موج كالجبال، ونوح الوالد الملهوف يبعث بالنداء. وابنه الفتى المغرور يأبى إجابة الدعاء، والموجة الغامرة تحسم الموقف في سرعة خاطفة راجفة وينتهي كل شيء، وكأن لم يكن دعاء ولا جواب! وإن الهول هنا ليقاس بمداه في النفس الحية بين الوالد والمولود كما يقاس بمداه في الطبيعة، والموج يطغى على الذرى بعد الوديان. وإنهما لمتكافئان، في الطبيعة الصامته وفي نفس الإنسان. وتلك سمة بارزة في تصوير القرآن. وتهدأ العاصفة، ويخيم السكون، ويقضى الأمر، ويتمشى الاستقرار كذلك في الألفاظ وفي إيقاعها في النفس والأذن: {وقيل: يا أرض ابلعي ماءك، ويا سماء أقلعي وغيض الماء، وقضي الأمر، واستوت على الجوديّ، وقيل بعداً للقوم الظالمين}.. ويوجه الخطاب إلى الأرض وإلى السماء بصيغة العاقل، فتستجيب كلتاهما للأمر الفاصل فتبلع الأرض، وتكف السماء: {وقيل: يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي}. {وغيض الماء}.. ابتلعته الأرض في جوفها وغار من سطحها. {وقضي الأمر}.. ونفذ القضاء {واستوت على الجودي}.. ورست رسو استقرار على جبل الجودي.. {وقيل بعداً للقوم الظالمين}.. وهي جملة مختصرة حاسمة معبرة عن جوها أعمق تعبير.. {قيل} على صيغة المجهول فلا يذكر من قال، من قبيل لف موضوعهم ومواراته: {وقيل بعداً للقوم الظالمين}.. بعداً لهم من الحياة فقد ذهبوا، وبعداً لهم من رحمة الله فقد لعنوا، وبعداً لهم من الذاكرة فقد انتهوا.. وما عادوا يستحقون ذكراً ولا ذكرى! والآن وقد هدأت العاصفة، وسكن الهول، واستوت على الجودي. الآن تستيقظ في نفس نوح لهفة الوالد المفجوع: {ونادى نوح ربه، فقال: رب إن ابني من أهلي، وإن وعدك الحق، وأنت أحكم الحاكمين}. رب إن ابني من أهلي، وإن وعدك الحق، وأنت أحكم الحاكمين. فلا تقضي إلا عن حكمة وتدبير.. قالها يستنجز ربه وعده في نجاة أهله، ويستنجزه حكمته في الوعد والقضاء.. وجاءه الرد بالحقيقة التي غفل عنها. فالأهل عند الله وفي دينه وميزانه ليسوا قرابة الدم، إنما هم قرابة العقيدة. وهذا الولد لم يكن مؤمناً، فليس إذن من أهله وهو النبي المؤمن.. جاءه الرد هكذا في قوة وتقرير وتوكيد؛ وفيما يشبه التقريع والتأنيب والتهديد: {قال: يا نوح إنه ليس من أهلك، إنه عمل غير صالح، فلا تسألن ما ليس لك به علم. إني أعظك أن تكون من الجاهلين}.. إنها الحقيقة الكبيرة في هذا الدين. حقيقة العروة التي ترجع إليها الخيوط جميعاً. عروة العقيدة التي تربط بين الفرد والفرد ما لا يربطه النسب والقرابة: {إنه ليس من أهلك. إنه عمل غير صالح}.. فهو مُنبتٌّ منك وأنت منبت منه، ولو كان ابنك من صلبك، فالعروة الأولى مقطوعة، فلا رابطة بعد ذلك ولا وشيجة. ولأن نوحاً دعا دعاء من يستنجز وعداً لا يراه قد تحقق.. كان الرد عليه يحمل رائحة التأنيب والتهديد: {فلا تسألن ما ليس لك به علم. إني أعظك أن تكون من الجاهلين}.. إني أعظك خشية أن تكون من الجاهلين بحقيقة الوشائج والروابط، أو حقيقة وعد الله وتأويله، فوعد الله قد أُول وتحقق، ونجا أهلك الذين هم أهلك على التحقيق. ويرتجف نوح ارتجافة العبد المؤمن يخشى أن يكون قد زل في حق ربه، فيلجأ إليه، يعوذ به، ويطلب غفرانه ورحمته: {قال: رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم، وإلا تغفرلي وترحمني أكن من الخاسرين}.. وأدركت رحمة الله نوحاً، تطمئن قلبه، وتباركه هو والصالح من نسله، فأما الآخرون فيمسهم عذاب أليم: {قيل؛ يا نوح اهبط بسلام منا، وبركات عليك وعلى أمم ممن معك. وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم}.. وكانت خاتمة المطاف: النجاة والبشرى له ولمن يؤمن من ذريته؛ والوعيد والتهديد لمن يريدون منهم متاع الحياة الدنيا ثم يمسهم العذاب الأليم.. ذات البشرى وذات الوعيد، اللذان مرا في مقدمة السورة. فجاء القصص ليترجمهما في الواقع المشهود.. ومن ثم يجيء التعقيب: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا، فاصبر إن العاقبة للمتقين}. فيحقق هذا التعقيب من أهداف القصص القرآني في هذه السورة: حقيقة الوحي التي ينكرها المشركون. فهذا القصص غيب من الغيب، ما كان يعلمه النبي، وما كان معلوماً لقومه، ولا متداولاً في محيطه. إنما هو الوحي من لدن حكيم خبير. وحقيقة وحدة العقيدة من لدن نوح أبي البشر الثاني. فهي هي. والتعبير عنها يكاد يكون هو التعبير. وحقيقة تكرارالإعتراضات والإتهامات من المكذبين على الرغم من الآيات والعبر والبينات التي لا تمنع جيلاً أن يرددها وقد بدت باطلة في جيل. وحقيقة تحقق البشرى والوعيد، كما يبشر النبي وينذر، وهذا شاهد من التاريخ. وحقيقة السنن الجارية التي لا تتخلف ولا تحابي ولا تحيد: {والعاقبة للمتقين}.. فهم الناجون وهم المستخلفون. وحقيقة الرابطة التي تربط بين فرد وفرد وبين جيل وجيل.. إنها العقيدة الواحدة التي تربط المؤمنين كلهم في إله واحد يلتقون في الدينونة له بلا منازع ولا شريك. وبعد.. أكان الطوفان عاماً في الأرض؟ أم إنه كان في تخوم الأرض التي بعث فيها نوح؟ وأين كانت هذه الأرض؟ وأين تخومها في العالم القديم وفي العالم الحديث؟ اسئلة لا جواب عليها إلا الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً؛ وإلا الإسرائيليات التي لا تستند إلى دليل صحيح.. وليس لها بعد ذلك قيمة في تحقيق أهداف القصص القرآني في كثير ولا قليل. ولكن هذا لا يمنع من القول بأن ظاهر النصوص القرآنية يلهم أن قوم نوح كانوا هم مجموع البشرية في ذلك الزمان. وأن الأرض التي يسكنونها كانت هي الأرض المعمورة في ذلك الحين. وأن الطوفان قد عم هذه الرقعة، وقضى على جميع الخلائق التي تقطنها فيما عدا ركب السفينة الناجين. وهذا حسبنا في إدراك طبيعة ذلك الحادث الكوني الذي جاءنا خبره من المصدر الوحيد الوثيق عن ذلك العهد السحيق، الذي لا يعرف «التاريخ» عنه شيئاً. وإلا فيومها أين كان «التاريخ»؟! إن التاريخ مولود حدثٌ لم يسجل من أحداث البشرية إلا القليل! وكل ما سجله قابل للخطأ والصواب، والصدق والكذب، والتجريح والتعديل! وما ينبغي قط أن يستفتى ذات يوم في شأن جاءنا به الخبر الصادق. ومجرد استفتائه في مثل هذا الشأن قلب للأوضاع، وانتكاسه لا تصيب عقلاً قد استقرت فيه حقيقة هذا الدين! ولقد حفلت أساطير شتى الشعوب وذكرياتها الغامضة بذكر طوفان أصاب أرضها في تاريخ قديم مجهول، بسبب معصية ذلك الجيل الذي شهد ذلك الحادث الكبير.. وأساطير بني إسرائيل المدونة فيما يسمونه «العهد القديم» تحوي كذلك ذكرى طوفان نوح.. ولكن هذا كله شيء لا ينبغي أن يذكر في معرض الحديث القرآني عن الطوفان؛ ولا ينبغي أن يخلط الخبر الصادق الوثيق بمثل هذه الروايات الغامضة وهذه الأساطير المجهولة المصدر والأسانيد. وإن كان لوجود هذه الأخبار الغامضة عن الطوفان عند شعوب شتى دلالته في أن الطوفان قد كان في أرض هذه الأقوام؛ أو على الأقل قد رحلت ذكرياته مع ذراري الناجين حين تفرقوا في الأرض بعد ذلك وعمروا الأرض من جديد.. وينبغي أن نذكر أن ما يسمى «بالكتاب المقدس» سواء في ذلك «العهد القديم» المحتوي على كتب اليهود أو «العهد الجديد» المحتوي على أناجيل النصارى ليس هو الذي نزل من عند الله. فالتوراة التي أنزلها الله على موسى قد حرقت نسخها الأصلية على يد البابليين عند سبي اليهود. ولم تعد كتابتها إلا بعد قرون عديدة قبيل ميلاد المسيح بنحو خمسة قرون وقد كتبها عزرا وقد يكون هو عزير وجمع فيها بقايا من التوراة. أما سائرها فهو مجرد تأليف! وكذلك الأناجيل فهي جميعاً لا تحوي إلا ما حفظته ذاكرة تلامذة المسيح وتلامذتهم بعد نحو قرن من وفاة المسيح عليه السلام ثم خلطت به حكايات كثيرة وأساطير!.. ومن ثم لايجوز أن يطلب عند تلك الكتب جميعها يقين في أمر من الأمور! ونخلص من هذه القضية العرضية إلى عبرة هذا الحادث الكوني العظيم.. وهي في الحقيقة عبر شتى، لا عبرة واحدة. وسنحاول أن نلم بشيء منها في الصفحات التالية، قبل أن ننتقل من قصة نوح إلى قصة هود: إن قوم نوح- عليه السلام هؤلاء الذين شهدنا مدى جاهليتهم، ومدى إصرارهم على باطلهم، ومدى استنكارهم لدعوة الإسلام الخالص التي حملها نوح عليه السلام إليهم، وخلاصتها: التوحيد الخالص الذي يفرد الله سبحانه بالدينونة والعبودية؛ ولا يجعل لأحد معه صفة الربوبية.. إن قوم نوح هؤلاء.. هم ذرية آدم.. وآدم كما نعلم من قصته في سورة الأعراف من قبل وفي سورة البقرة كذلك قد هبط إلى الأرض ليقوم بمهمة الخلافة فيها وهي المهمة التي خلقها الله لها وزوده بالكفايات والإستعدادات اللازمة لها بعد أن علمه ربه كيف يتوب من الزلة التي زلها، وكيف تلقى من ربه كلمات فتاب عليه بها. وكيف أخذ عليه ربه العهد والميثاق هو وزوجه وبنوه أن {يتبع} ما يأتيه من هدى الله، ولا يتبع الشيطان وهو عدوه وعدو بنيه إلى يوم الدين. وإذن فقد هبط آدم إلى الأرض مسلماً لله متبعاً هداه.. وما من شك أنه علم بنيه الإسلام جيلاً بعد جيل؛ وأن الإسلام كان هو أول عقيدة عرفتها البشرية في الأرض؛ حيث لم تكن معها عقيدة أخرى! فإذا نحن رأينا قوم نوح وهم من ذرية آدم بعد أجيال لا يعلم عددها إلا الله قد صاروا إلى هذه الجاهلية التي وصفتها القصة في هذه السورة فلنا أن نجزم أن هذه الجاهلية طارئة على البشرية بوثنيتها وأساطيرها وخرافاتها وأصنامها وتصوراتها وتقاليدها جميعاً. وأنها انحرفت عن الإسلام إليها بفعل الشيطان المسلط على بني آدم؛ وبفعل الثغرات الطبيعية في النفس البشرية. تلك الثغرات التي ينفذ منها عدو الله وعدو الناس، كلما تراخوا عن الاستمساك بهدى الله، واتباعه وحده، وعدم اتباع غيره معه في كبيرة ولا صغيرة.. ولقد خلق الله الإنسان ومنحه قدراً من الاختيار هو مناط الابتلاء وبهذا القدر يملك أن يستمسك بهدى الله وحده فلا يكون لعدوه من سلطان عليه، كما يملك أن ينحرف ولو قيد شعرة عن هدى الله إلى تعاليم غيره؛ فيجتاله الشيطان حتى يقذف به بعد أشواط- إلى مثل تلك الجاهلية الكالحة التي انتهت إليها ذراري آدم النبي المسلم بعد تلك الأجيال التي لا يعلمها إلا الله. وهذه الحقيقة.. حقيقة أن أول عقيدة عرفت في الأرض هي الإسلام القائم على توحيد الدينونة والربوبية والقوامة لله وحده.. تقودنا إلى رفض كل ما يخبط فيه من يسمونهم «علماء الأديان المقارنة» وغيرهم من التطوريين الذين يتحدثون عن التوحيد بوصفه طوراً متاخراً من أطوار العقيدة. سبقته أطوار شتى من التعدد والتثنيه للآلهة. ومن تأليه القوى الطبيعية وتأليه الأرواح، وتأليه الشموس والكواكب.. إلى آخر ما تخبط فيه هذه «البحوث» التي تقوم ابتداء على منهج موجه بعوامل تاريخية ونفسية وسياسية معينة؛ يهدف إلى تحطيم قاعدة الأديان السماوية والوحي الإلهي والرسالات من عند الله وإثبات أن الأديان من صنع البشر؛ وأنها من ثم تطورت بتطور الفكر البشري على مدار الزمان! وينزلق بعض من يكتبون عن الإسلام مدافعين؛ فيتابعون تلك النظريات التي يقررها الباحثون في تاريخ الأديان وفق ذلك المنهج الموجه! من حيث لا يشعرون! وبينما هم يدافعون عن الإسلام متحمسين يحطمون أصل الإعتقاد الإسلامي الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم. حين يقرر أن آدم عليه السلام هبط إلى الأرض بعقيدة الإسلام. وأن نوحاً عليه السلام واجه ذراري آدم الذين اجتالهم الشيطان عن الإسلام إلى الجاهلية الوثنية بذلك الإسلام نفسه.. القائم على التوحيد المطلق.. وأن الدورة تجددت بعد نوح فخرج الناس من الإسلام إلى الجاهلية؛ وأن الرسل جميعاً أرسلوا بعد ذلك بالإسلام.. القائم على التوحيد المطلق.. وإنه لم يكن قط تطور في العقيدة السماوية في أصل الإعتقاد إنما كان الترقي والتركيب والتوسع في الشرائع المصاحبة للعقيدة الواحدة وأن ملاحظة ذلك التطور في العقائد الجاهلية لا يدل على أن الناس صاروا إلى التوحيد بناء على تطور في أصل العقيدة. إنما يدل على أن عقيدة التوحيد على يد كل رسول كانت تترك رواسب في الأجيال التالية حتى بعد انجراف الأجيال عنها ترقي عقائدهم الجاهلية ذاتها؛ حتى تصير أقرب إلى أصل التوحيد الرباني. أما عقيدة التوحيد في أصلها فهي أقدم في تاريخ البشرية من العقائد الوثنية جميعاً! وقد وجدت هكذا كاملة منذ وجدت، لأنها ليست نابعة من أفكار البشرومعلوماتها المترقية؛ إنما هي آتية لهم من عند الله سبحانه. فهي حق منذ اللحظة الأولى، وهي كاملة منذ اللحظة الأولى.. هذا ما يقرره القرآن الكريم؛ ويقوم عليه التصور الإسلامي. فلا مجال إذن لباحث مسلم وبخاصة إذا كان يدافع عن الإسلام! أن يعدل عن هذا الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم، إلى شيء مما تخبط فيه نظريات علم الأديان المقارنة. تلك النظريات النابعة من منهج موجه كما أسلفنا! ومع أننا هنا في ظلال القرآن لا نناقش الأخطاء والمزالق في الكتابات التي تكتب عن الإسلام إذ أن مجال هذه المناقشة بحث آخر مستقل.. ولكننا بنموذج واحد، نعرضه في مواجهة المنهج القرآني والتقريرات القرآنية في هذه القضية.. كتب الأستاذ العقاد في كتابه: «الله» في فصل أصل العقيدة: . «ترقى الإنسان في العقائد. كما ترقى في العلوم والصناعات. فكانت عقائده الأولى مساوية لحياته الأولى، وكذلك كانت علومه وصناعاته. فليست أوائل العلم والصناعة بأرقى من أوائل الديانات والعبادات، وليست عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفر من عناصر الحقيقة في الأخرى. وينبغي أن تكون محاولات الإنسان في سبيل الدين أشق وأطول من محاولاته في سبيل العلوم والصناعات. لأن حقيقة الكون الكبرى أشق مطلباً وأطول طريقاً من حقيقة هذه الأشياء المتفرقة التي يعالجها العلم تارة والصناعة تارة أخرى. وقد جهل الناس شأن الشمس الساطعة، وهي أظهر ما تراه العيون وتحسه الأبدان، ولبثوا إلى زمن قريب يقولون بدورانها حول الأرض، ويفسرون حركاتها وعوارضها كما يفسر الألغاز والأحلام. ولم يخطر لأحد أن ينكر وجود الشمس لأن العقول كانت في ظلام من أمرها فوق ظلام. ولعلها لا تزال. فالرجوع إلى أصل الأديان في عصور الجاهلية الأولى لا يدل على بطلان التدين، ولا على أنها تبحث عن محال. وكل ما يدل عليه أن الحقيقة الكبرى أكبر من أن تتجلى للناس كاملة شاملة في عصر واحد؛ وأن الناس يستعدون لعرفانها عصراً بعد عصر، وطوراً بعد طور. واسلوباً بعد أسلوب، كما يستعدون لعرفان الحقائق الصغرى، بل على نحو أصعب وأعجب من استعدادهم لعرفان هذه الحقائق التي يحيط بها العقل ويتناولها الحس والعيان. وقد أسفر علم المقابلة بين الأديان عن كثير من الضلالات والأساطير التي آمن بها الإنسان الأول، ولا تزال لها بقية شائعة بين القبائل البدائية، أو بين أمم الحضارة العريقة. ولم يكن من المنظور أن يسفر هذا العلم عن شيء غير ذلك، ولا أن تكون الديانات الأولى على غير ما كانت عليه من الضلالة والجهالة. فهذه هي وحدها النتيجة المعقولة التي لا يترقب العقل نتيجة غيرها. وليس في هذه النتيجة جديد يستغربه العلماء، أو يبنون عليه جديداً في الحكم على جوهر الدين. فإن العالم الذي يخطر له أن يبحث في الأديان البدائية ليثبت أن الأولين قد عرفوا الحقيقة الكونية الكاملة منزهة عن شوائب السخف والغباء، إنما يبحث عن محال...». كذلك كتب في فصل: «أطوار العقيدة الإلهية» في الكتاب نفسه: «يعرف علماء المقابلة بين الأديان ثلاث أطوار عامة مرت بها الأمم البدائية فى اعتقادها بالآلهة والأرباب: وهى دور التعدد Polytheism ودور التمييز والترجيح Henotheism ودور الوحدانيةMonotheism » ففى دور التعدد كانت القبائل الأولى تتخذ لها أرباباً تعد بالعشرات، وقد تتجاوز العشرات إلى المئات. ويوشك فى هذا الدور أن يكون لكل أسرة كبيرة رب تعبده، أو تعويذة تنوب عن الرب فى الحضور، وتقبل الصلوات والقرابين. «وفى الدور الثانى وهو دور التمييز والترجيح تبقى الأرباب على كثرتها، ويأخذ رب منها فى البروز والرجحان على سائرها. إما لأنه رب القبيلة الكبرى التى تدين لها القبائل الأخرى بالزعامة، وتعتمد عليها فى شؤون الدفاع والمعاش، وإما لأنه يحقق لعباده جميعاً مطلباً أعظم وألزم من سائر المطالب التى تحققها الأرباب المختلفة، كأن يكون رب المطر والإقليم فى حاجة إليه، أو رب الزوابع والرياح وهى موضع رجاء أو خشية يعلو على موضع الرجاء والخشية عند الأرباب القائمة على تسيير غيرها من العناصر الطبيعة. «وفي الدور الثالث تتوحد الأمة، فتتجمع إلى عبادة واحدة تؤلف بينها مع تعدد الأرباب في كل إقليم من الأقاليم المتفرقة. ويحدث في هذا الدور أن تفرض الأمة عبادتها على غيرها كما تفرض عليها سيادة تاجها وصاحب عرشها، ويحدث أيضاً أن ترضى من إله الأمة المغلوبة بالخضوع لإلها، مع بقائه وبقاء عبادته كبقاء التابع للمتبوع، والحاشية للملك المطاع. » ولا تصل الأمة إلى هذه الوحدانية الناقصة إلاّ بعد أطوار من الحضارة تشيع فيها المعرفة، ويتعذّر فيها على العقل قبول الخرافات التي كانت سائغة في عقول الهمج وقبائل الجاهلية، فتصف الله بما هو أقرب إلى الكمال والقداسة من صفات الآلهة المتعددة في أطوارها السابقة، وتقترن العبادة بالتفكير في أسرار الكون وعلاقتها بإرادة الله وحكمته العالية، وكثيراً ما يتفرد الإله الأكبر في هذه الأمم بالربوبية الحقة، وتنزل الأرباب الأخرى إلى مرتبة الملائكة أو الأرباب المطرودين من الحظيرة السماوية.. «الخ. وواضح سواء من رأي الكاتب نفسه أو مما نقله ملخصاً من آراء علماء الدين المقارن ان البشر هم الذين ينشئون عقائدهم بأنفسهم؛ ومن ثم تظهر فيها أطوارهم العقلية والعلمية والحضارية والسياسية. وأن التطور من التعدد إلى التثنية إلى التوحيد تطور زمني مطرد على الإجمال.. وهذا واضح من الجملة الأولى في تقديم المؤلف لكتابه:» موضوع هذا الكتاب نشأة العقيدة الإلهية، منذ أن اتخذ الإنسان رباً، إلى أن عرف الله الأحد، واهتدى إلى نزاهة التوحيد «.. والذي لا شك فيه أن الله سبحانه يقرر في كتابه الكريم، تقريراً واضحاً جازماً، شيئاً آخر غير ما يقرره صاحب كتاب:» الله «متأثراً فيه بمنهج علماء الأديان المقارنة.. وأن الذي يقرره الله سبحانه أن آدم وهو أول البشر عرف حقيقة التوحيد كاملة، وعرف نزاهة التوحيد غير مشوبة بشائبة من التعدد والتثنية، وعرف الدينونة لله وحده باتباع ما يتلقى منه وحده. وأنه عرّف بنيه بهذه العقيدة، فكانت هنالك أجيال في أقدم تاريخ البشرية لا تعرف إلا الإسلام ديناً، وإلا التوحيد عقيدة.. وأنه لما طال الأمد على الأجيال المتتابعة من ذرية آدم انحرفت عن التوحيد.. ربما إلى التثنية وربما إلى التعدد.. ودانت لشتى الأرباب الزائفة... حتى جاءها نوح عليه السلام بالتوحيد من جديد. وأن الذين بقوا على الجاهلية أغرقهم الطوفان جميعاً؛ ولم ينج إلا المسلمون الموحدون الذين يعرفون» نزاهة التوحيد «وينكرون التعدد والتثنية وسائر الأرباب والعبادات الجاهلية! ولنا أن نجزم أن أجيالاً من ذراري هؤلاء الناجين عاشت كذلك بالإسلام القائم على التوحيد المطلق. قبل أن يطول عليهم الأمد، ويعودوا إلى الإنحراف عن التوحيد من جديد.. وأنه هكذا كان شأن كل رسول: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} والذي لا شك فيه أن هذا شيء، والذي يقرره علماء الأديان المقارنة ويتابعهم فيه مؤلف كتاب: «الله» شيء آخر. وبينهما تقابل تام في منهج النظر وفي النتائج التي ينتهي إليها.. وآراء الباحثين في تاريخ الأديان ليست سوى نظريات يعارض بعضها بعضاً، فهي ليست الكلمة النهاية حتى في مباحث البشر الفانين! وما من شك أنه حين يقرر الله سبحانه أمراً يبينه في كتابه الكريم هذا البيان القاطع، ويقرر غيره أمراً آخر مغايراً له تمام المغايرة، فإن قول الله يكون أولى بالاتباع. بخاصة ممن يدافعون عن الإسلام؛ ويكتبون ما يكتبون بقصد دفع الشبهات عنه وعن أصل الدين جملة.. وأن هذا الدين لا يخدم بنقض قاعدته الإعتقادية في أن الدين جاء وحيا من عند الله، ولم يبتدعه البشر من عند أنفسهم؛ وأنه جاء بالتوحيد منذ أقدم العصور ولم يجئ بغير التوحيد في أية فترة من فترات التاريخ، ولا في أية رسالة. كما أنه لا يخدم بترك تقريراته إلى تقريرات علماء الأديان المقارنة وبخاصة حين يعلم أن هؤلاء إنما يعملون وفق منهج موجه لتدمير القاعدة الأساسية لدين الله كله؛ وهي أنه وحي من الله، وليس من وحي الفكر البشري المترقي المتطور! وليس وقفاً على ترقي العقل البشري في العلم المادي والخبرة التجريبية! ولعل هذه اللمحة المختصرة التي لا نملك الاستطراد فيها في كتاب الظلال تكشف لنا عن مدى الخطورة في تلقي مفهوماتنا الإسلامية في أي جانب من جوانبها عن مصدر غير إسلامي. كما تكشف لنا عن مدى تغلغل مناهج الفكر الغربية ومقرراتها في أذهان الذين يعيشون على هذه المناهج والمقررات ويستقون منها. حتى وهم يتصدون لرد الافتراءات عن الإسلام من أعدائه.. {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} ونقف وقفة أخرى مع قصة نوح.. نقف مع نوح وابنه الذي ليس من أهله! إنها وقفة على مَعلم واضح بارز في طبيعة هذه العقيدة وفي خطها الحركي أيضاً.. وقفة على مفرق الطريق تكشف معالم الطريق.. {وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، فلا تبتئس بما كانوا يفعلون. واصنع الفلك بأعيننا ووحينا، ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون...} {حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا: احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن، وما آمن معه إلا قليل. ..} {وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل: يا بني اركب معنا، ولا تكن مع الكافرين. قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء، قال: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين..} {ونادى نوح ربه، فقال: رب إن ابني من أهلي، وإن وعدك الحق، وأنت أحكم الحاكمين. قال: يا نوح إنه ليس من أهلك، إنه عمل غير صالح، فلا تسألن ما ليس لك به علم، إني أعظك أن تكون من الجاهلين. قال: رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم، وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} .. إن الوشيجة التي يتجمع عليها الناس في هذا الدين وشيجة فريدة تتميز بها طبيعة هذا الدين، وتتعلق بآفاق وآماد وأبعاد وأهداف يختص بها ذلك المنهج الرباني الكريم. إن هذه الوشيجة ليست وشيجة الدم والنسب؛ وليست وشيجة الأرض والوطن، وليست وشيجة القوم والعشيرة، وليست وشيجة اللون واللغة، وليست وشيجة الجنس والعنصر، وليست وشيجة الحرفة والطبقة.. إن هذه الوشائج جميعها قد توجد ثم تنقطع العلاقة بين الفرد والفرد؛ كما قال الله سبحانه وتعالى لعبده نوح عليه السلام وهو يقول: {رب إن ابني من أهلي}.. {يا نوح إنه ليس من أهلك} ثم بين له لماذا يكون ابنه.. ليس من أهله.. {إنه عمل غير صالح}.. إن وشيجة الإيمان قد انقطعت بينكما يا نوح: {فلا تسألن ما ليس لك به علم} فأنت تحسب أنه من أهلك، ولكن هذا الحسبان خاطئ. أما المعلوم المستيقن فهو أنه ليس من أهلك، ولو كان هو ابنك من صلبك! وهذا هو الْمَعْلَم الواضح البارز على مفرق الطريق بين نظرة هذا الدين إلى الوشائج والروابط، وبين نظرات الجاهلية المتفرقة... إن الجاهليات تجعل الرابطة آنا هي الدم والنسب؛ وآناً هي الأرض والوطن، وآناً هي القوم والعشيرة، وآناً هي اللون واللغة، وآناً هي الجنس والعنصر، وآناً هي الحرفة والطبقة! تجعلها آناً هي المصالح المشتركة، أو التاريخ المشترك. أو المصير المشترك.. وكلها تصورات جاهلية على تفرقها أو تجمعها تخالف مخالفة أصيلة عميقة عن أصل التصور الإسلامي! والمنهج الرباني القويم ممثلاً في هذا القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم وفي توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم وهي من هذا القرآن وعلى نسقه واتجاهه قد أخذ الأمة المسلمة بالتربية على ذلك الأصل الكبير.. والْمَعْلَم الواضح البارز في مفرق الطريق.. وهذا المثل الذي يضربه في هذه السورة من نوح وابنه فما يكون بين الولد والوالد، ضرب أمثاله لشتى الوشائج والروابط الجاهلية الأخرى، ليقرر من وراء هذه الأمثال حقيقة الوشيجة الوحيدة التي يعتبرها. * ضرب لها المثل فيما يكون بين الولد والوالد وذلك فيما كان بين إبراهيم عليه السلام وأبيه وقومه كذلك: {واذكر في الكتاب إبراهيم، إنه كان صديقاً نبياً. إذ قال لأبيه: يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً؟ يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك، فاتبعني أهدك صراطاً سوياً. يا أبت لا تعبد الشيطان، إن الشيطان كان للرحمن عصياً. يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً.. قال: أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم؟ لئن لم تنته لأرجمنك! واهجرني ملياً. قال سلام عليك سأستغفر لك ربي، إنه كان بي حفياً، وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي، عسى ألا أكون بدعاء ربي شقياً. فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبياً؛ ووهبنا لهم من رحمتنا، وجعلنا لهم لسان صدق عليا} [مريم: 41 50]. * وضرب لها المثل فيما كان بين إبراهيم وذريته كما علمه الله سبحانه ولقنه، وهو يعطيه عهده وميثاقه. ويبشره ببقاء ذكره وامتداد الرسالة في عقبه: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات، فأتمهن، قال: إني جاعلك للناس إماما، قال: ومن ذريتي؟ قال: لا ينال عهدي الظالمين..} {وإذ قال إبراهيم: رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر. قال: ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} [البقرة: 124 126] * وضرب لها المثل فيما يكون بين الزوج وزوجه، وذلك فيما كان بين نوح وامرأته، ولوط وامرأته. وفي الجانب الآخر ما كان بين امرأة فرعون وفرعون: {ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط، كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين، فخانتاهما، فلم يغنيا عنهما من الله شيئا، وقيل: ادخلا النار مع الداخلين} {وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون، إذ قالت: رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة، ونجني من فرعون وعمله، ونجني من القوم الظالمين} [التحريم: 10 11] * وضربَ لها المثل فيما يكون بين المؤمنين وأهلهم وقومهم ووطنهم وأرضهم وديارهم وأموالهم، ومصالحهم وماضيهم ومصيرهم. وذلك فيما كان بين إبراهيم والمؤمنين به مع قومهم. وما كان من الفتية أصحاب الكهف مع أهلهم وقومهم ودورهم وأرضهم... {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه، إذ قالوا لقومهم: إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده...} [الممتحنة: 4]. {أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً؟ إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا: ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً، فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً، ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً، نحن نقص عليك نبأهم بالحق، إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى، وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا: ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذن شططاً. هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة. لولا يأتون عليهم بسلطان بين! فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً؟ وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته، ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً} [الكهف: 9 16]. وبهذه الأمثلة التي ضربها الله للأمة المسلمة من سيرة الرهط الكريم من الأنبياء والمؤمنين. الذين سبقوها في موكب الإيمان الضارب في شعاب الزمان، وضحت معالم الطريق لهذه الأمة؛ وقام هذا المَعْلَم البارز أمامها عن حقيقة الوشيجة التي يجب أن يقوم عليها المجتمع المسلم، ولا يقوم على سواها. وطالبها ربها بالإستقامة على الطريق في حسم ووضوح يتمثلان في مواقف كثيرة، وفي توجيهات من القرآن كثيرة.. هذه نماذج منها.. {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، رضي الله عنهم ورضوا عنه، أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون} [المجادلة: 22] {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة، وقد كفروا بما جاءكم من الحق، يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم، إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي، تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم، ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل} [الممتحنة: 1] {لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم، والله بما تعملون بصير، قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه... الخ} [الممتحنة: 3 4] {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان، ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون} [التوبة: 23]. {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [المائدة: 51]. وهكذا تقررت تلك القاعدة الأصيلة الحاسمة في علاقات المجتمع الإسلامي؛ وفي طبيعة بنائه وتكوينه العضوي الذي يتميز به عن سائر المجتمعات الجاهلية قديماً وحديثاً إلى آخر الزمان. ولم يعد هناك مجال للجمع بين «الإسلام» وبين إقامة المجتمع على أية قاعدة أخرى غير القاعدة التي اختارها الله للأمة المختارة. والذين يدعون صفة الإسلام، ثم يقيمون مجتمعاتهم على قاعدة أو أكثر من تلك العلاقات الجاهلية التي أحل الإسلام محلها قاعدة العقيدة، إما أنهم لا يعرفون الإسلام؛ وإما أنهم يرفضونه. والإسلام في كلتا الحالتين لا يعترف لهم بتلك الصفة التي يدعونها لأنفسهم وهم لا يطبقونها، بل يختارون غيرها من مقومات الجاهلية فعلاً! وندع هذه القاعدة وقد صارت واضحة تماماً لننظر في جوانب من حكمة الله في إقامة المجتمع الإسلامي على هذه القاعدة.. * إن العقيدة تمثل أعلى خصائص «الإنسان» التي تفرقه من عالم البهيمة؛ لأنها تتعلق بالعنصر الزائد في تركيبه وكينونته عن تركيب البهيمة وكينونتها وهو العنصر الروحي الذي به صار هذا المخلوق إنساناً في هذه الصورة وحتى أشد الملحدين إلحاداً وأكثر الماديين مادية، قد انتبهوا أخيراً إلى أن العقيدة خاصة من خواص الإنسان تفرقه فرقاً أساسياً عن الحيوان. ومن ثم ينبغي أن تكون العقيدة في المجتمع الإنساني الذي يبلغ ذروة الحضارة الإنسانية هي آصرة التجمع. لأنها العنصر الذي يتعلق بأخص خصائص الإنسان المميزة له عن البهائم. ولا تكون آصرة التجمع عنصراً يتعلق بشيء يشترك فيه الإنسان مع البهائم! من مثل الأرض والمرعى والمصالح والحدود التي تمثل خواص الحظيرة، وسياج الحظيرة! ولا تكون كذلك هي الدم والنسب والعشيرة والقوم والجنس والعنصر واللون واللغة.. فكلها مما يشترك فيه الإنسان مع البهيمة. وليس هناك إلا شؤون العقل والقلب التي يختص بها الإنسان دون البهيمة! * كذلك تتعلق العقيدة بعنصر آخر يتميز به الإنسان عن البهائم.. هو عنصر الاختيار والإرادة، فكل فرد على حدة يملك أن يختار عقيدته بمجرد أن يبلغ سن الرشد؛ وبذلك يقرر نوع المجتمع الذي يريد أن يعيش فيه مختاراً؛ ونوع المنهج الاعتقادي والاجتماعي والسياسي والإقتصادي والخلقي الذي يريد بكامل حريته أن يتمذهب به ويعيش.. ولكن هذا الفرد لا يملك أن يقرر دمه ونسبه ولونه وقومه وجنسه. كما لا يملك أن يقرر الأرض التي يحب أن يولد فيها، ولغة الأم التي يريد أن ينشأ عليها.. إلى آخر تلك المقومات التي تقام عليها مجتمعات الجاهلية!.. إن هذه الأمور كلها يقضى فيها قبل مجيئه إلى هذه الأرض، ولا يؤخذ له فيها مشورة ولا رأي؛ إنما هي تفرض عليه فرضاً سواء أحب أم كره! فإذا تعلق مصيره في الدنيا والآخرة معاً أو حتى في الدنيا وحدها بمثل هذه المقومات التي تفرض عليه فرضاً لم يكن مختاراً ولا مريداً؛ وبذلك تسلب إنسانيته مقوماً من أخص مقوماتها؛ وتهدر قاعدة أساسية من قواعد تكريم الإنسان؛ بل من قواعد تركيبه وتكوينه الإنساني المميز له من سائر الخلائق! ومن أجل المحافظة على خصائص الإنسان الذاتية، والمحافظة على الكرامة التي وهبها الله له متمشية مع تلك الخصائص؛ يجعل الإسلام العقيدة التي يملك كل فرد اختيارها بشخصه منذ أن يبلغ سن الرشد هي الآصرة التي يقوم عليها التجمع الإنساني في المجتمع الإسلامي؛ والتي يتقرر على أساسها مصير كل فرد بإرادته الذاتية. وينفي أن تكون تلك العوامل الاضطرارية، التي لا يد له فيها، ولا يملك كذلك تغييرها باختياره، هي آصرة التجمع التي تقرر مصيره طول حياته. * ومن شأن قيام المجتمع على آصرة العقيدة وعدم قيامه على العوامل الاضطرارية الأخرى أن ينشئ مجتمعاً إنسانياً عالمياً مفتوحاً؛ يجيء إليه الأفراد من شتى الأجناس والألوان واللغات والأقوام والدماء والأنساب والديار والأوطان بكامل حريتهم واختيارهم الذاتي؛ لا يصدهم عنه صاد، ولا يقوم في وجوههم حاجز، ولا تقف دونه حدود مصطنعة، خارجة عن خصائص الإنسان العليا. وأن تصب في هذا المجتمع كل الطاقات والخواص البشرية، وتجتمع في صعيد واحد، لتنشئ «حضارة إنسانية» تنتفع بكل خصائص الأجناس البشرية؛ ولا تغلق دون كفاية واحدة، بسبب من اللون أو العنصر أو النسب والأرض... «ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية؛ ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها، دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة، والحدود الإقليمية السخيفة! ولإبراز» خصائص الإنسان «في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها، دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان.. كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعاً مفتوحاً لجميع الأجناس والألوان واللغات، بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة! وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها، وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت، وأنشأت مركباً عضوياً فائقاً في فترة تعد نسبياً قصيرة. وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة، تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة، على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان.» «لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق: العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصيني والهندي والروماني والإغريقي والأندونيسي والإفريقي... إلى آخر الأقوام والأجناس... وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية. ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوماً ما» عربية «إنما كانت دائماً» إسلامية «ولم تكن يوماً ما» قومية «إنما كانت دائماً» إسلامية «و لم تكن يوماً ما» قومية «إنما كانت دائماً» عقيدية «. » ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة، وبآصرة الحب. وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة. فبذلوا جميعاً أقصى كفاياتهم، وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم، وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية والتاريخية فى بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعاً على قدم المساواة، وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد، وتبرز فيها إنسانيتهم وحدها بلا عائق. وهذا ما لم يجتمع قط لأى تجمع آخر على مدار التاريخ! «لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلاً. فقد جمعت بالفعل أجناساً متعددة، ولغات متعددة، وألواناً متعددة، وأمزجة متعددة. ولكن هذا كله لم يقم على» آصرة إنسانية «ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة.. لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية؛ وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني بصفة عامة وعبودية سائر الأجناس الأخرى. ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي؛ ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع الإسلامي.» «كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى.. تجمع الإمبراطورية البريطانية مثلاً.. ولكنه كان كالتجمع الروماني، الذي هو وريثه! تجمعاً قومياً استغلالياً، يقوم على أساس سيادة القومية الانجليزية، واستغلال المستعمرات التي تضمها الإمبراطورية.. ومثله الإمبراطوريات الأوربية كلها.. الإمبراطورية الإسبانية والبرتغالية في وقت ما، والإمبراطورية الفرنسية.. كلها في ذلك المستوى الهابط البشع المقيت! وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعاً من نوع آخر، يتخطى حواجز الجنس والقوم والأرض واللغة واللون. ولكنها لم تقمه على قاعدة» إنسانية «عامة، إنما أقامته على القاعدة» الطبقية «. فكان هذا التجمع هو الوجه الآخر للتجمع الروماني القديم.. هذا تجمع قاعدة طبقة» الأشراف «وذلك تجمع على قاعدة طبقة» الصعاليك «(البروليتريا)؛ والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد الأسود على سائر الطبقات الأخرى! وما كان لمثل هذا التجمع الصغير البغيض أن يثمر إلا أسوأ ما في الكائن الإنساني.. فهو ابتداء قائم على أساس إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها. باعتبار أن» المطالب الأساسية «للإنسان هي» الطعام والمسكن والجنس «وهي مطالب الحيوان الأولية وباعتبار أن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام!!» «لقد تفرد الإسلام بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص الإنسان وتنميتها وإعلائها في بناء المجتمع الإنساني.. وما يزال متفرداً.. والذين يعدلون عنه إلى أي منهج آخر، يقوم على أية قاعدة أخرى، من القوم أو الجنس أو الأرض أو الطبقة.. إلى آخر هذا النتن السخيف، هم أعداء» الإنسان «حقاً! هم الذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره الله؛ ولا يريدون لمجتمعه أن ينتفع باقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج وتناسق». * ويحسن أن نذكر أن أعداء هذا الدين، الذين يعرفون مواضع القوة في طبيعته وحركته؛ وهم الذين يقول الله تعالى فيهم: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} لم يفتهم أن يدركوا أن التجمع على أساس العقيدة سر من أسرار قوة هذا الدين، وقوة المجتمع الإسلامي الذي يقوم على هذا الأساس.. ولما كانوا بصدد هدم ذلك المجتمع أو إضعافه إلى الحد الذي يسهل عليهم السيطرة عليه؛ وشفاء ما في صدورهم من هذا الدين وأهله؛ ولاستغلالهم كذالك واستغلال مقدراتهم وديارهم وأموالهم.. لما كانوا بصدد تلك المعركة مع هذا المجتمع لم يفتهم أن يوهنوا من القاعدة التي يقوم عليها؛ وأن يقيموا لأهله المجتمعين على إله واحد، أصناماً تعبد من دون الله، اسمها تارة «الوطن» واسمها تارة «القوم» واسمها تارة «الجنس». وظهرت هذه الأصنام على مراحل التاريخ تارة باسم «الشعوبية» وتارة باسم «الجنسية الطورانية» وتارة باسم «القومية العربية» وتارة بأسماء شتى، تحملها جبهات شتى، تتصارع فيما بينها في داخل المجتمع الإسلامي الواحد القائم على أساس العقيدة، المنظم بأحكام الشريعة.. إلى أن وهنت القاعدة الأساسية تحت المطارق المتوالية، وتحت الإيحاءات الخبيثة المسمومة؛ وإلى أن أصبحت تلك «الأصنام» مقدسات يعتبر المنكر لها خارجاً على دين قومه! أو خائناً لمصالح بلده!!! وأخبث المعسكرات التي عملت وما زالت تعمل في تخريب القاعدة الصلبة التي كان يقوم عليها التجمع الإسلامي الفريد في التاريخ.. كان هو المعسكر اليهودي الخبيث، الذي جرب سلاح «القومية» في تحطيم التجمع المسيحي، وتحويله إلى قوميات سياسية ذات كنائس قومية.. وبذلك حطموا الحصار المسيحي حول الجنس اليهودي؛ ثم ثنوا بتحطيم الحصار الإسلامي حول ذلك الجنس الكنود! وكذلك فعل الصليبيون مع المجتمع الإسلامي بعد جهد قرون كثيرة في إثارة النعرات الجنسية والقومية والوطنية بين الأجناس الملتحمة في المجتمع الإسلامي.. ومن ثم استطاعوا أن يرضوا أحقادهم الصليبية القديمة على هذا الدين وأهله. كما استطاعوا أن يمزقوهم ويروضوهم على الإستعمار الأوروبي الصليبي. وما يزالون.. حتى يأذن الله بتحطيم تلك الأصنام الخبيثة الملعونة؛ ليقوم التجمع الإسلامي من جديد، على أساسه المتين الفريد.. * وأخيراً فإن الناس ما كانوا ليخرجوا من الجاهلية الوثنية بكلياتهم حتى تكون العقيدة وحدها هي قاعدة تجمعهم. ذلك أن الدينونة لله وحده لا تتم تمامها إلا بقيام هذه القاعدة في تصورهم وفي تجمعهم. يجب أن تكون هناك قداسة واحدة لمقدس واحد، وألا تتعدد «المقدسات»! ويجب ان يكون هناك شعار واحد، وألا تتعدد «الشعارات» ويجب أن تكون هناك قبلة واحدة يتجه إليها الناس بكلياتهم وألا تتعدد القبلات والمتجهات.. إن الوثنية ليست صورة واحدة هي وثنية الأصنام الحجرية والآلهة الأسطورية! إن الوثنية يمكن أن تتمثل في صور شتى؛ كما أن الأصنام يمكن أن تتخذ صوراً متعددة؛ وآلهة الأساطير يمكن أن تتمثل مرة أخرى في المقدسات والمعبودات من دون الله أياً كانت أسماؤها. وأياً كانت مراسمها. وما كان الإسلام ليخلص الناس من الأصنام الحجرية والأرباب الأسطورية، ثم يرضى لهم بعد ذلك أصنام الجنسيات والقوميات والأوطان.. وما إليها.. يتقاتل الناس تحت راياتها وشعاراتها. وهو يدعوهم إلى الله وحده، وإلى الدينونة له دون شيء من خلقه! لذلك قسم الإسلام الناس إلى أمتين اثنتين على مدار التاريخ البشري.. أمة المسلمين من أتباع الرسل كل في زمانه حتى يأتي الرسول الأخير إلى الناس كافة وأمة غير المسلمين من عبدة الطواغيت والأصنام في شتى الصور والأشكال على مدار القرون.. وعندما أراد الله أن يعرف المسلمين بأمتهم التي تجمعهم على مدار القرون، عرفها لهم في صورة أتباع الرسل كل في زمانه وقال لهم في نهاية استعراض أجيال هذه الأمة: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} ولم يقل للعرب: إن أمتكم هي الأمة العربية في جاهليتها وإسلامها سواء! ولا قال لليهود: إن أمتكم هي بنو إسرائيل أو العبرانيون في جاهليتهم وإسلامهم سواء! ولا قال لسلمان الفارسي: إن أمتك هي فارس! ولا لصهيب الرومي: إن أمتك هي الرومان! ولا لبلال الحبشي: إن أمتك هي الحبشة! إنما قال للمسلمين من العرب والفرس والروم والحبش: إن أمتكم هي المسلمون الذين أسلموا حقاً على أيام موسى وهارون، وإبراهيم، ولوط، ونوح، وداود وسليمان، وأيوب، وإسماعيل وإدريس وذي الكفل وذي النون، وزكريا ويحيى، ومريم.. كما جاء في سورة الأنبياء: [آيات 48 91]. هذه هي أمة «المسلمين» في تعريف الله سبحانه.. فمن شاء له طريقاً غير طريق الله فليسلكه. ولكن ليقل: إنه ليس من المسلمين! أما نحن الذين اسلمنا لله، فلا نعرف لنا أمة إلا الأمة التي عرفها لنا الله. والله يقص الحق وهو خير الفاصلين.. وحسبنا هذا القدر مع إلهامات قصة نوح في هذه القضية الأساسية في هذا الدين. ثم نقف الوقفة الأخيرة مع قصة نوح لنرى قيمة الحفنة المسلمة في ميزان الله سبحانه: إن حفنة من المسلمين من أتباع نوح عليه السلام، تذكر بعض الروايات انهم اثنا عشر، هم كانوا حصيلة دعوة نوح في ألف سنة إلا خمسين عاماً كما يقرر المصدر الوحيد المستيقن الصحيح في هذا الشأن.. إن هذه الحفنة وهي ثمرة ذلك العمر الطويل والجهد الطويل قد استحقت أن يغير الله لها المألوف من ظواهر هذا الكون؛ وأن يجري لها ذلك الطوفان الذي يغمر كل شيء وكل حي في المعمور وقتها من الأرض! وأن يجعل هذه الحفنة وحدها هي وارثة الأرض بعد ذلك، وبذرة العمران فيها والإستخلاف من جديد.. .. وهذا أمر خطير.. إن طلائع البعث الإسلامي التي تواجه الجاهلية الشاملة في الأرض كلها؛ والتي تعاني الغربة في هذه الجاهلية والوحشة؛ كما تعاني من الأذى والمطاردة والتعذيب والتنكيل. . إن هذه الطلائع ينبغي أن تقف طويلاً أمام هذا الأمر الخطير، وأمام دلالته التي تستحق التدبر والتفكير! إن وجود البذرة المسلمة في الأرض شيء عظيم في ميزان الله تعالى.. شيء يستحق منه سبحانه أن يدمر الجاهلية وأرضها وعمرانها ومنشآتها وقواها ومدخراتها جميعاً؛ كما يستحق منه سبحانه ان يكلأ هذه البذرة ويرعاها حتى تسلم وتنجو وترث الأرض وتعمرها من جديد! لقد كان نوح عليه السلام يصنع الفلك بأعين الله ووحيه، كما قال تعالى: {واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون}.. وعندما لجأ نوح إلى ربه والقوم يطاردونه ويزجرونه ويفترونه عليه كما قال الله تعالى في سورة القمر: {كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر. فدعا ربه أني مغلوب فانتصر} عندما لجأ نوح إلى ربه يعلن أنه {مغلوب} ويدعو ربه أن «ينتصر» هو وقد غُلب رسوله.. عندئذ أطلق الله القوى الكونية الهائلة لتكون في خدمة عبده المغلوب: {ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر. وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر} وبينما كانت تلك القوى الهائلة تزاول عملها على هذا المستوى الكوني الرائع الموهوب.. كان الله سبحانه بذاته العلية مع عبده المغلوب: {وحملناه على ذات ألواح ودسر. تجري بأعيننا.. جزاء لمن كان كفر..} هذه هي الصورة الهائلة التي يجب أن تقف طلائع البعث الإسلامي في كل مكان وفي كل زمان أمامها حين تطاردها الجاهلية؛ وحين «تغلبها» الجاهليه! إنها تستحق أن يسخر الله لها القوى الكونية الهائلة.. وليس من الضروري أن تكون هي الطوفان. فما الطوفان إلا صورة من صور تلك القوى! {وما يعلم جنود ربك إلا هو} وإنه ليس عليها إلا أن تثبت وتستمر في طريقها؛ وإلا أن تعرف مصدر قوتها وتلجأ إليه؛ وإلا أن تصبر حتى يأتي الله بأمره، وإلا أن تثق أن وليها القدير لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. وأنه لن يترك أولياءه إلى أعدائه، إلا فترة الإعداد والابتلاء؛ وأنها متى اجتازت هذه الفترة فإن الله سيصنع لها وسيصنع بها في الأرض ما يشاء. وهذه هي عبرة الحادث الكوني العظيم.. إنه لا ينبغي لأحد يواجه الجاهلية بالإسلام أن يظن أن الله تاركه للجاهلية وهو يدعو إلى إفراد الله سبحانه بالربوبية. كما أنه لا ينبغي له أن يقيس قوته الذاتية إلى قوى الجاهلية فيظن أن الله تاركه لهذه القوى وهو عبده الذي يستنصر به فيدعوه: {أني مغلوب فانتصر} إن القوى في حقيقتها ليست متكافئة ولا متقاربة.. إن الجاهلية تملك قواها.. ولكن الداعي إلى الله يستند إلى قوة الله. و الله يملك أن يسخر له بعض القوى الكونية- حينما يشاء وكيفما يشاء وأيسر هذه القوى يدمر على الجاهلية من حيث لا تحتسب! وقد تطول فترة الابتلاء لأمر يريده الله.. ولقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً؛ قبل أن يأتي الأجل الذي قدره الله. ولم تكن حصيلة هذه الفترة الطويلة إلا اثني عشر مسلماً.. ولكن هذه الحفنة من البشر كانت في ميزان الله تساوي تسخير تلك القوى الهائلة، والتدمير على البشرية الضالة جميعاً، وتوريث الأرض لتلك الحفنة الطيبة تعمرها من جديد وتستخلف فيها.. إن عصر الخوارق لم يمض! فالخوارق تتم في كل لحظة وفق مشيئة الله الطليقة ولكن الله يستبدل بأنماط من الخوارق أنماطاَ أخرى، تلائم واقع كل فترة ومقتضياتها. وقد تدِق بعض الخوارق على بعض العقول فلا تدركها؛ ولكن الموصولين بالله يرون يد الله دائماً، ويلابسون آثارها المبدعة. والذين يسلكون السبيل إلى الله ليس عليهم إلا أن يؤدوا واجبهم كاملاً، بكل ما في طاقتهم من جهد؛ ثم يدَعوا الأمور لله في طمأنينة وثقة. وعندما يُغلبون عليهم أن يلجأوا إلى الناصر المعين وأن يجأروا إليه كما جأر عبده الصالح نوح: {فدعا ربه أني مغلوب، فانتصر} ثم ينتظروا فرج الله القريب. وانتظار الفرج من الله عبادة؛ فهم على هذا الانتظار مأجورون. ومرة أخرى نجد أن هذا القرآن لا يكشف عن أسراره إلا للذين يخوضون به المعركة ويجاهدون به جهاداً كبيراً.. إن هؤلاء وحدهم هم الذين يعيشون في مثل الجو الذي تنزل فيه القرآن؛ ومن ثم يتذوقونه ويدركونه؛ لأنهم يجدون أنفسهم مخاطبين خطاباً مباشراً به، كما خوطبت به الجماعة المسلمة الأولى، فتذوقته وأدركته وتحركت به.. .. والحمد لله في الأولى والآخرة..
|